القارتين الآسيوية والأفريقية وملتقى طرق العالم ، وأيضا هو مهد الأديان والحضارات" والإشكالية في هذا الشريان هو أنه كما ذكر في الوثيقة : " ويعيش على شواطئه الجنوبية والشرقية بوجه خاص شعب واحد تتوفر له وحدة التاريخ والدين واللسان". أبرز ما جاء في توصيات المؤتمِرون في هذا المؤتمر والذي شارك فيه سياسيون ومفكرون وباحثون والذي استمر لمدة عامين كم ذكرنا ما يلي: 1- إبقاء شعوب هذه المنطقة مفككة جاهلة متأخرة. وعلى هذا الأساس قاموا بتقسيم دول العالم بالنسبة إليهم إلى ثلاث فئات: الفئة الأولى : دول الحضارة الغربية المسيحية (دول أوروبا وأمريكا الشمالية واستراليا) والواجب تجاه هذه الدول هو دعم هذه الدول ماديا وتقنيا لتصل إلى مستوى تلك الدول الفئة الثانية : دول لا تقع ضمن الحضارة الغربية المسيحية ولكن لا يوجد تصادم حضاري معها ولا تشكل تهديدا عليها (كدول أمريكا الجنوبية واليابان وكوريا وغيرها) والواجب تجاه هذه الدول هو احتواؤها وإمكانية دعمها بالقدر الذي لا يشكل تهديدا عليها وعلى تفوقها الفئة الثالثة: دول لا تقع ضمن الحضارة الغربية المسيحية ويوجد تصادم حضاري معها وتشكل تهديدا لتفوقها (وهي بالتحديد الدول العربية بشكل خاص والإسلامية بشكل عام) والواجب تجاه تلك الدول هو حرمانها من الدعم ومن اكتساب العلوم والمعارف التقنية وعدم دعمها في هذا المجال ومحاربة أي اتجاه من هذه الدول لامتلاك العلوم التقنية 2- ومحاربة أي توجه وحدوي فيها. ولتحقيق ذلك دعا المؤتمر إلى إقامة دولة في فلسطين تكون بمثابة حاجز بشري قوي وغريب ومعادي يفصل الجزء الأفريقي من هذه المنطقة عن القسم الآسيوي والذي يحول دون تحقيق وحدة هذه الشعوب الا وهي دولة إسرائيل واعتبار قناة السويس قوة صديقة للتدخل الأجنبي وأداة معادية لسكان المنطقة فصل عرب آسيا عن عرب أفريقيا ليس فقط فصلاً مادياً عبر الدولة الإسرائيلية، وإنما اقتصادياً وسياسياً وثقافياً، مما أبقى العرب في حالة من الضعف. واستمر تجزئة الوطن العربي وإفشال جميع التوجهات الوحدوية إما بإسقاطها أو تفريغها من محتواها، ولا يعني هذا الأمر بالضرورة تدخلاً إسرائيلياً وإنما هو مصلحلة لوجود إسرائيل من جهة وللتعاون بينها وبين القوى الخارجية الطامعة بالعرب من جهة ثانية. أقدمت الأتفاقية إلى الحد من نهوض العرب ومنعهم من التقدم وامتلاك العلم والمعرفة وذلك من خلال سياسات الدول المتقدمة التي تمنع عن العرب وسائل ولوج العلم وامتلاك إمكانية تطويره والمساهمة في إنتاج المعرفة. إن من أسباب حالات العداء والمنازعات الرئيسة بين الدول العربية الصراع مع إسرائيل والموقف من هذا الصراع ودور القوى الخارجية في دفع هذه الدولة أو تلك لاتباع سياسات تتعارض مع مواقف دول أخرى، مما يشكل سبباً جوهرياً للتوترات العربية. وحتى مشاكل الحدود بين بعض الأقطار العربية يمكن أن تعزى إلى العامل الخارجي في معظمها. في عام 1905 دعا حزب المحافظين البريطاني سرّاً إلى عقد مؤتمر يهدف إلى إعداد استراتيجية أوربية، لضمان سيادة الحضارة الغربية على العالم، وإيجاد آلية تحافظ على تفوق ومكاسب الغرب الاستعماري إلى أطول أمد ممكن. ولما كان حزب المحافظين خارج الحكم، فقد قدم فكرة الدعوة إلى عقد المؤتمر إلى رئيس حزب الأحرار: هنري كامبل بنرهان" رئيس الوزارة البريطانية آنذاك. لم يكن "كامبل" بعيداً عن هذه الفكرة، فقد كان مولعاً بفلسفة التاريخ، وكان معنياً بأن تبقي بريطانيا على امبراطوريتها التي تمتد من أقصى الأرض إلى أقصاها . دعيت إلى المؤتمر الدول الاستعمارية كافة وهي: بريطانيا، فرنسا، هولندا، بلجيكا، إسبانيا، إيطاليا، البرتغال . شارك في المؤتمر فلاسفة ومشاهير المؤرخين وعلماء الاستشراق والاجتماع والجغرافية والاقتصاد، إضافة إلى خبراء في شؤون النفط والزراعة والاستعمار. ويمكن إيراد أسماء بعض المشاركين: البروفيسور جيمس: مؤلف كتاب "زوال الامبراطورية الرومانية" البروفسور لوي مادلين: مؤلف كتاب: "نشوء وزوال امبراطورية نابليون" الأساتذة: لستر وسميث وترتخ وزهروف. افتتح "كامبل" المؤتمر بكلمة مطولة جاء فيها: "إن الامبراطوريات تتكون وتتسع وتقوى ثم تستقر إلى حدٍّ ما ثم تنحل رويداً رويداً ثم تزول والتاريخ ملئ بمثل هذه التطورات وهو لا يتغير بالنسبة لكل نهضة ولكل أمة، فهناك امبراطوريات : روما، أثينا، الهند والصين وقبلها بابل وآشور والفراعنة وغيرهم. فهل لديكم أسباب أو وسائل يمكن أن تحول دون سقوط الاستعمار الأوروبي وانهياره أو تؤخر مصيره ؟ وقد بلغ الآن الذروة وأصبحت أوروبا قارة قديمة استنفدت مواردها وشاخت مصالحها، بينما لا يزال العالم الآخر في صرح شبابه يتطلع إلى المزيد من العلم والتنظيم والرفاهية، هذه هي مهمتكم أيها السادة وعلى نجاحها يتوقف رخاؤنا وسيطرتنا.." وبالنظر إلى ضخامة الدراسات وأوراق العمل المقدمة إلى المؤتمر، تشكلت لجنة للمتابعة سميت بلجنة الاستعمار. نظمت اللجنة "استفتاءات شملت الجامعات البريطانية والفرنسية التي ردّت على التساؤلات المطروحة، بأجوبة مفصلة شملت اتصالات اللجنة المفكرين والباحثين وأصحاب السلطة في حكومات الدول الغربية إضافة إلى كبار الرأسماليين والسياسيين. أنهت اللجنة أعمالها في العام 1907 وقدمت توصياتها إلى المؤتمر. خرج المؤتمر بوثيقة سرّية سميت "وثيقة كامبل" أو "تقرير كامبل" أو توصية مؤتمر لندن لعام 1907"التقرير استراتيجي بكل معنى الكلمة ولمّا يزل معتماً عليه فلم ينشره مصدروه ولم يفرج عنه بشكل نهائي وقد مضى قرابة قرن على إصداره. تحدث بعض الباحثين عن الإفراج عن التقرير، فالأستاذ محمد حسين هيكل - المعروف بدقة مصادره - أورد في كتابه "المفاوضات السرّية وإسرائيل" التوصية النهائية للتقرير تحت عنوان: " وصية بنرمان." "والباحث المحامي انطون سليم كنعان أشار إلى التقرير في محاضرة له بعنوان "فلسطين والقانون" ألقاها سنة 1949 في كل من جامعتي فلورينو وباريس، وقد استند في معلوماته إلى مصادر إيطالية. وقد نشر اتحاد المحامين العرب المحاضرة ضمن منشوراته التي غطت أنشطة مؤتمره الثالث الذي انعقد في دمشق 21-25 أيلول 1957 ص 457-489. وقد أشار إلى التقرير الدكتور مسعود الضاهر (أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر في الجامعة اللبنانية) وردود الفعل العربي عليه وذلك ضمن بحثه المنشور في مجلة "البحث التاريخي "السورية العدد7 لعام 2003 . وقد أشار الدكتور جاسم سلطان في كتابه "إدارة فلسفة التاريخ" إلى الإفراج عن التقرير لمدة أسبوعين فقط ثم أعيد خوفاً من آثاره الممتدة. إلاّ أن أهم المراكز البحثية التي نشرت التقرير هي وزارة الإرشاد القومي في مصر إذ تضمن ملف وثائق فلسطين من عام 637م- إلى عام 1949 التقرير تحت عنوان: توصية مؤتمر لندن المسمى مؤتمر كامبل سنة 1907: وفيما يلي نص التوصية: "إن إقامة حاجز بشري قوي غريب على الجسر البري الذي يربط أوروبا بالعالم القديم ويربطهما معاً بالبحر الأبيض المتوسط بحيث يشكل في هذه المنطقة وعلى مقربة من قناة السويس قوة عدوة لشعب المنطقة وصديقة للدول الأوروبية ومصالحها. هو التنفيذ العملي العاجل للوسائل والسبل المقترحة". وبالرغم من وفرة المصادر التي تؤكد صدور هذا التقرير أو هذه الوثيقة، إلا أن عدم الإفراج عنه بشكل نهائي كما أشرنا، جعل بعض المؤرخين والباحثين يشكك وجوده فعلاً أم أنه من إبداع الخيال، وكان من المفترض أن تقوم مراكز الأبحاث الفلسطينية والموسوعة الفلسطينية، بدراسته والحديث عنه، وهذا الذي لم يتحقق. والبحث الذي نحن بصدده، يعرض إلى الوثيقة كما وردت في المصادر المتعددة، ومناقشتها استناداً إلى المنظومات القيمية للغرب، بخلفياتها التاريخية وأصولها الفلسفية، كما يتعرض إلى الممارسات الاستعمارية للغرب قبل وخلال السياق الزمني الذي أعدّت فيه هذه الوثيقة. " وثيقة كامبل "الوثيقة هي استراتيجية أوروبية لضمان سيادة الحضارة الغربية وطول أمدها: لذلك فهي ترى العالم من خلال ثلاث مساحات: المساحة الأولى: تتكون من الوحدات التي تقع في المنظومة المسيحية الغربية، وتقرر الوثيقة أن من واجب بريطانيا تجاه هذه المساحة من الحضارة - على أي حالٍ من الأحوال- ألا تكون السيادة على العالم خارج إطارها. أي أن هذه المنظومة الحضارية هي التي تسيطر على العالم ويظل زمام الأمور بيدها. فإذا كانت أي حضارة لا شك ستنتهي بحسب نظرة فلسفة التاريخ - فإنها يجب أن تضمن أن وريث هذه الحضارة من نفس المساحة ومن جوهر المنظومة الغربية. المساحة الثانية: وهي الحضارة الصفراء التي لم تتناقص مع الحضارة الغربية من الناحية القيمية لكنها قد تختلف معها في حساب المصالح. وهذه الحضارة يمكن التعامل معها والتعاطي معها تجارياً ويمكن غزوها ثقافياً لهشاشة منظوماتها القيمية ومن ثم فالتعامل معها يعتمد على الجانب المصلحي للكتلة المسيحية الغربية من العالم. أما المساحة الثالثة: فهي البقعة الخضراء أو الحضارة الخضراء فهذه المساحة من الأرض، تحتوي على منظومة قيمية منافسة للمنظومة الغربية، صارعتها في مناطق كثيرة وأخرجتها من مناطق كثيرة ومن واجب الحضارة الغربية المسيحية أخذ احتياجاتها وإجراءاتها لمنع أي تقدم محتمل لهذه المنظومة الحضارية أو إحدى دولها لأنها مهددة للنظام القيمي الغربي. وفي الإجراءات التي تتخذ مع هذه المساحة الثالثة (الحضارة التي تتناقص مع الغرب) تقترح هذه الوثيقة ثلاثة إجراءات رئيسية: أولاً: حرمان دولة المساحة الخضراء من المعرفة والتقنية أو ضبط حدود المعرفة. ثانياً: إيجاد أو تعزيز مشاكل حدودية متعلقة بهذه الدول. ثالثاً: تكوين أو دعم الأقليات بحيث لا يستقيم النسيج الاجتماعي لهذه الدول ويظل مرهوناً بالمحيط الخارجي". (د.سلطان الجاسم فلسفة التاريخ ص62 وما بعدها) لم تأت "وثيقة كامبل" من فراغ، فالغرب الاستعماري كان يعدّ لاطروحة تمثل مراجعة شاملة لتاريخه وتاريخ العالم وعلاقاته الصدامية المستمرة مع العرب والمسلمين. الوثيقة تمثل مراجعة نقدية للمفاهيم العلمية والمعرفية والقيمية التي بنى عليها تفوقه وذلك من أجل الاستمرار في بناء قدراته وتجاوز أزماته ووضع القواعد المستقبلية للتعامل مع الشعوب الأخرى في العالم حتى تبقى تحت سيطرته ونفوذه وفي حقل تأثيره المعرفي. كانت أبرز الدراسات المطروحة على جدول أعمال المؤتمر منصبة على تفحص اللحظات الحاسمة في الصدام مع شرقنا العربي الإسلامي والتحولات الحاسمة الكبرى في منظوماته القيمية ونوجز ذلك فيما يلي: أولاً: في حملات الفرنجة (الصليبيين) : خاض الغرب تحت رايات الشعارات الدينية المضللة أشرس الحملات في محاولة منه للسيطرة على عالمنا الغني باءت في محصلتها النهائية إلى الفشل وكانت اللحظة الحاسمة فيها عند أسوار عكا. "الزمان: كان قبل سبعمئة سنة، بالضبط في صباح 18 مايو/ أيار 1291 ميلادية. المكان: مدينة عكا بأسوارها الدهرية ، حيث انتصر الجيش المملوكي الإسلامي وألقى في البحر آخر جندي فرنجي" (شاكر مصطفى : حكاية الصليبيات في ثلاثة تواريخ : الجمعية التاريخية 1991 ص142). الغرب على لسان المتحدثين بالمؤتمر، يرفض العودة إلى الشرق، تحت هذه الشعارات، ولايريد التكرار للمشهد الفاجعة بالنسبة إليه. ثانياً: في البحث عن إسرائيل القديمة: " ما إن تلاشت أصداء آخر حملة صليبية على بلاد الشام ومصر حتى عاد الغرب بدءاً من القرن السابع عشر يعدّ العدّة لغزو المنطقة بأفكار جديدة أخطرها على الإطلاق : فكرة إعادة اليهود. هذه الفكرة وجدت غذاءها الفكري في النظرية الألفية. أخذت هذه النظرية اسمها من كلمة "خلياس" اليونانية بمعنى ألف. تتمحور هذه النظرية حول عودة وتملك المسيح أورشليم بعد الألف". من هذه الفكرة، وفكرة مكملة لها، أراد منها لوثر وتلاميذه أن يضعوا حداً للتفرقة العنصرية ضد اليهود أعاد طرح المسألة طرحاً لاهوتياً من خلال السؤال: ما موقع اليهود في المشروع الإلهي؟ المركزية الأوروبية وجدت في هذه الأفكار حصان طروادة من أجل غزو الشرق بذريعة تنطلي على الكثير ممن لا علم لهم بالتاريخ ومجرياته. وهكذا بدأ الغرب بتوظيف أدواته المعرفية وأهمها الاستشراق من أجل البحث عن "إسرائيل القديمة" بوصفه مشروعاً معرفياً يؤسس لطور جديد للحضارة الغربية يرتكز على قراءة حرفية لنصوص التوراة. هذه القراءة الحرفية تربط اليهود بأرض فلسطين على أنهم ورثة الوعد الإلهي، ومن ثم فالمسألة التي تدّعى هي الصهيونية بمعنى العودة إلى فلسطين بمفهوم متعصب يحلّ دولة إسرائيل محل إله إسرائيل. لقد كانت هذه القراءة نقيض وجهة نظر المذهب الرسمي للكنيسة بحسب القديس أوغسطين في القرن الخامس الميلادي من أن ما ورد في العهد القديم بشأن مملكة الله إسرائيل قائم في السماء وليس على الأرض، ومن ثم فإن القدس وصهيون ليسا مكانين محددين على الأرض للسكان اليهود أو السكن لليهود ولكنهما مكانان سماويان مفتوحان أمام كل المؤمنين بالله. وثيقة كامبل باعتمادها فكرة إقامة الحاجز البشري الغريب من اليهود على أرض فلسطين، تكون قد التقت عبر لحظة حاسمة أخرى، في التأسيس لتحول الغرب إلى منشئٍ لمنظومة قيمية جديدة تستثمر اليهودية وإسرائيل، من أجل أغراضه الاستعمارية والأهم من ذلك انجراف مراكز السلطة في الغرب إلى الحديث عن اليهودية وإسرائيل على أنها منشأ الحضارة الغربية ومصدرها الأخلاقي. لذلك كان استكشاف مصر وإقامة دولة إسرائيل على أرض فلسطين عنواناً لأول غزو غربي يقوم به نابليون عام 1799 ميلادية، ولغرض السيطرة على طرق العبور إلى الشرق. ثالثاً: بناء القدرات وتجاوز الأزمات: تداول مؤتمر كامبل مراجعة شاملة لقضايا النهوض العلمي والتقدم في المعرفة بالتأكيد على التوجهات الفكرية الداعية إلى التحول إلى العقلنة (ديكارت، فولتير) وإحلال الإنسان في الموقع المركزي الكوني. لكن بالمقابل أوجب على الحضارة الغربية أخذ الاحتياطات والإجراءات لمنع أي تقدم محتمل ليقعتنا الخضراء - لأنها تهدد منظومته الحضارية الغربية. وباتباع الغرب لمنهاج تاريخي محرف، وتفسير مغلوط للأحداث والمكونات والتراث، واجه العالم خلال قرون عديدة، قوانين جائرة عصفت بموارده وأمنه الاجتماعي والحضاري. وأبرز هذه القوانين: 1- قانون التفوق وهو ما كرسته العنصرية بما يسمح بتقسيم البشر وتصنيفهم إلى سادة وعبيد، وأن الجنس الأبيض الذي يشكل الساده حمله الله عبء الرسالة الحضارية. 2- قانون المصلحة ويعني أنه ليس هناك من ثوابت قيمية وإنما هناك مصالح، فما يخدم الاستعمار في لحظة يجب التمسك به وإذا تعارض مع المصلحة في لحظة أخرى فلا بأس من تركه. 3- قانون السيطرة ويعني التحكم وفرض الإرادة بما يخدم المصلحة وانعكست هذه القوانين على الشرق استعماراً وحشياً مقيتا لأن الشرق في حكم الغرب، "ينتمي إلى عرق محكوم لذلك ينبغي له أن يُحكم". لكن أخطر ما تداوله مؤتمر كامبل، مفهوم الوعي النقدي الضدي كامتداد لحقل المعرفة والعقلنة. هذا المفهوم أخذ مساره في حقل فلسفة التاريخ على شكل رؤية لبناء المجتمعات ونمو الحياة البشرية، أخذ بها هيجل (1770م - 1831م) وتتلخص في أن كل المجتمعات تحتاج إلى أن تجدد أفكارها، وأن تجد الأفكار حرّية واسعة تستطيع فيها أن تمارس دورها في تطوير المجتمعات من خلال الأفكار المتناقضة وصراع الأفكار الذي يولد الأفكار الجديدة ويحقق نمو الحياة البشرية. هذا المفهوم يسمح بتداوله في المجتمعات الغربية لكنه خط أحمر ومحرم على المجتمعات الأخرى في شرقنا لاسيما شرقنا العربي والإسلامي. "وهكذا تمكن الغرب من خلال ممارسته لهذا المفهوم وامتلاكه لثنائية المعرفة والسلطة من تجاوز أزماته المستمرة من ديكارت وحتى اليوم" بينما استمر الشرق في تراجعه النسبي وغير قادر على إدارة أزماته وهذا ما جعل "الثقافة الغربية متسلطة داخل أوروبا وخارجها على حدٍّ سواء". رابعاً: العمل على استمرار تأخر المنطقة وتجزئتها إلى دول متناحرة وخلق دولة إسرائيل: أهم ما واجه لجنة الاستعمار التي انبثقت عن مؤتمر كامبل تعقيدات العلاقات الدولية في مطلع القرن التاسع عشر، وأبرزها الوضع المضطرب لمنطقة شرق وجنوب البحر المتوسط المحكوم في معظم أجزائه من قبل الدولة العثمانية. هذه المنطقة تشكل وحدة جغرافية للوطن العربي من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي، ووحدة تاريخية عريقة بلغة ودين مشترك، إضافة إلى ثقافة حضارية واحدة. فمع انحسار السيطرة العثمانية على أقاليم المنطقة العربية وبروز الحركة القومية التركية، تنامت الحركات القومية الداعية إلى استقلال كل قومية على حده. وفي ظل هذه التعقيدات، انطلقت شعارات الثورة العربية وتصاعدت الأصوات الداعية إلى الوحدة العربية وإلى امتلاك العرب لثرواتهم الطبيعية ومواردهم البشرية. دقت لجنة الاستعمار ناقوس الخطر، فالوضع خطير ويهدد مصالح الدول الاستعمارية وكانت بريطانيا أكبر هذه الدول وأكثرها خشية من المستقبل. كان حلّ إقامة دولة إسرائيل لليهود، مشروعاً اعتمدته المركزية الأوروبية منذ القرن السابع عشر على خلفية قراءة حرفية للعهد القديم تربط اليهود بأرض فلسطين على أنهم ورثة الوعد الإلهي، واستثمار هذه الدولة محفزاً متقدماً للغرب في هذه المنطقة، قد لاقي المعارضة من معظم التجمعات اليهودية الأوروبية لأن المصالح اليهودية كانت مع الاندماج في المجتمعات الأوروبية التي وفرت لهم ذلك خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. أما يهود الدولة العثمانية فقد حصلوا على حقوقهم كافة إضافة إلى الرعوية العثمانية، وتمتعت جالياتهم في كافة أنحاء الدولة برخاء اقتصادي، كان له أثر بالغ، في رفض دعوة نابليون لهم بالتوجه إلى فلسطين لإقامة دولة إسرائيل لكن المستجدات الجديدة في الدولة الروسية في أعقاب أحداث عام 1882م وتعرض ملايين اليهود إلى الطرد وامتداد عمليات الطرد لتشمل بولونيا ومعظم الدول الأوروبية الشرقية، والقيود التي فرضتها الدول الأوروبية للحيلولة دون تسرب كثيف لليهود إليها، طرح على القيادات اليهودية قضية التفتيش عن وطن خاص باليهود. الوضع اليهودي المستجد، مع وضع الدولة العثمانية في حالة الاحتضار، وضع لجنة الاستعمار أمام هذه المتغيرات والمستجدات. أعادت لجنة الاستعمار دراسة ملفات نابليون وبالمرستون وذررائيلي الذين نادوا بإقامة كيان يهودي على أرض فلسطين يشكل حاجزاً بشرياً يعمل لخدمة الاستعمار، وكان قرارها متوافقاً مع الحل الذي نادى به أباطرة الاستعمار، وعودة لتطبيق وتنفيذ المشروع الذي نادت به، المركزية الأوروبية منذ القرن السابع عشر. وفيما يلي النص الذي اعتمد من قبل لجنة الاستعمار في هذا السبيل: "على الدول ذات المصلحة أن تعمل على استمرار تأخر المنطقة وتجزئتها وإبقاء شعوبها مضللة جاهلة متناحرة وعلينا محاربة اتحاد هذه الشعوب وارتباطها بأي نوع من أنواع الارتباط الفكري أو الروحي أو التاريخي وإيجاد الوسائل العملية القوية لفصلها بعضها عن بعض وكوسيلة أساسية مستعجلة ولدرء الخطر توصي اللجنة بضرورة العمل على فصل الجزء الافريقي من هذه المنطقة عن جزئها الآسيوي وتقترح لذلك إقامة حاجز بشري قوي وغريب بحيث يشكل في هذه المنطقة وعلى مقربة من قناة السويس قوة صديقة للاستعمار عدوة لسكان المنطقة." وهكذا يمكن اعتبار الجغرافية السياسية التي نشأت وفقاً لقانون إعادة تقسيم العالم ضمن مصالح المشروع الامبريالي الغربي قبل الحرب العالمية الأولى وبعدها، متوافقة مع نصوص وثيقة كامبل. "فقد كان الرأي الغربي مجمعاً على عدم السماح للعرب وبوادر اليقظة عليهم حين التحرر من العثمانيين بأن يستعيدوا وحدتهم أي أن يعودوا إلى وضعهم الطبيعي في التاريخ لئلا تضر عودتهم هذه بالمجال الحيوي القادم لأوروبا". وبالتالي فقد نقض الاتفاق المبرم مابين الشريف حسين ومكماهون القاضي بعدم إبرام أي صلح إلا إذا كان ضمن شروطه: تحقيق حرية الشعوب وخلاصها. عادت المركزية الأوروبية في صورتها الجديدة تعتبر أرض الوطن العربي، أرض عدو تجري عليه اتفاقيات توزيع الغتائم مما نقرؤه في اتفاقية سايكس بيكو (التسوية التاريخية) والتي جاءت كاستمرار وأول التطبيقات العملية لوثيقة كامبل. أسس وعد بلفور 11/2 /1917 قاعدة الحاجز البشري القوي الغريب على أرض فلسطين، دولة يهودية عدوة للعرب وصديقة وشريكة للغرب ومصالحه. انصبت المناقشات خلال مؤتمر فرساي مابين أول كانون الثاني إلى 28 حزيران من عام 1919 على اختيار نظرية أو قاعدة تقام عليها أسس الهيمنة والسيطرة الغربية على العالم، وكانت تسميات الشرعية الدولية والقانون الدولي، وفي اختيار الوسائل الكفيلة باستمرار سيطرة الغرب على العالم وفقاً لوثيقة كامبل، اختيرت الوسيلة والاسم للاستعمار الجديد فأطلقوا عليه اسم الانتداب. وقد نصت المادة 22 من الميثاق على أنواعه وطريقة تطبيقه وأهدافه التي صُنفت طبقاً للنظرية الداروينية في تسلسل الشعوب وقد كُرم العرب بإبقائهم وديعة مقدسة في عنق الحضارة الغربية، فالشعوب الأوروبية كاليونان مثلاً أعطيت الاستقلال والشعوب العربية وضعت تحت الانتداب أما الشعوب الإفريقية فقد أبقيت مصفدة بالسلاسل وتحت الاستعمار. وقد تابع مجلس الحلفاء الأعلى التابع لمجلس عصبة الأمم إصدار القرارات التي أفضت إلى تهويد فلسطين وتجزئة الوطن العربي إلى كيانات إقليمية متعددة، وذلك ضمن نصوص الاتفاقات والمعاهدات التي صدرت عن المؤتمرات المتلاحقة سان ريمو 4/25/ 1920، سيفر10/ 8 /1920 لوزان 7/24/ 1923. وبصدور القرار 181 تاريخ 11/29/ 1941 القاضي بتقسيم فلسطين إلى دولتين عربية ويهودية وإلغاء السيادة العربية على القدس، تكون منظمة الأمم المتحدة قد أكملت مسيرة الغرب الطويلة باتجاه التأسيس لدولة صهيونية، هي الجدار البشري القوي الغريب، قاعدة متقدمة للاستعمار، يزرع التجزئة ويبقى العرب في وضع مفكك جاهل متناحر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق